الإستراتيجية التركية الجديدة في سوريا- الوحدة، الأمن، وإعادة الإعمار

المؤلف: سمير العركي09.27.2025
الإستراتيجية التركية الجديدة في سوريا- الوحدة، الأمن، وإعادة الإعمار

في الثاني عشر من شهر كانون الأول الحالي، ظهر بشكل مفاجئ رئيس جهاز الاستخبارات التركية، إبراهيم كالن، في رحاب المسجد الأموي العريق بقلب العاصمة السورية، دمشق، وذلك بعد فترة وجيزة لا تتجاوز الأربعة أيام من سقوط نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد. هذا الظهور المفاجئ يحمل في طياته دلالات عميقة ورسائل مبطنة.

لم يكتفِ المسؤول التركي البارز بأداء الصلاة في هذا الصرح الإسلامي الشامخ، بل قام بجولة تفقدية في أرجاء شوارع دمشق المزدحمة، مستقلاً سيارة فارهة يقودها بنفسه القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، وسط حفاوة بالغة وترحيب حافل من جموع الشعب السوري الذين تواجدوا في محيط المكان. تلك اللحظات عكست مشاعر الأمل والتطلع نحو مستقبل أفضل.

إن الرسالة التي تبعث بها أنقرة جلية وواضحة من خلال هذا المشهد؛ وهي أن الجمهورية التركية لن تترك سوريا وحيدة في هذه المرحلة الحاسمة من التحول السياسي، والتي غالبًا ما تشهد فيها الدول اضطرابات جمة وصراعات عنيفة، كما هو معهود في مراحل الانتقال المشابهة التي شهدها العالم، خاصة تلك التي اتسمت بالعنف والفوضى.

بالتوازي مع هذه الزيارة الرمزية، جاءت تصريحات كبار المسؤولين الأتراك، تتسم بالسرعة والوضوح، لتكشف عن ملامح الإستراتيجية التركية المستقبلية تجاه الشأن السوري، وتوضح الرؤية التي تسعى أنقرة لتحقيقها في هذا البلد الجار.

ولكن، قبل الخوض في استكشاف تفاصيل تلك الإستراتيجية الطموحة، يجدر بنا أن ندرك الأهمية الجيوستراتيجية التي تحتلها سوريا لدى تركيا، وأن نفهم بعمق الدوافع الكامنة وراء هذا الاهتمام المتزايد.

ماذا تعني سوريا لتركيا؟

لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم طبيعة العلاقة المتشابكة والروابط الوثيقة التي تجمع بين البلدين الجارين، دون استحضار البُعد التاريخي العميق، وذلك لتفسير الروابط الجيوسياسية والجيوستراتيجية والجيوثقافية المتأصلة التي جمعتهما منذ حقبة الدولة العثمانية المجيدة. فتلك الروابط تشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية المشتركة للبلدين.

وعلى الرغم من انهيار الدولة العثمانية، وبروز كيانات سياسية جديدة على أنقاضها، فإن سوريا حافظت على مكانتها المحورية وأهميتها البالغة بالنسبة لتركيا، فهي بمثابة المعبر السياسي والاقتصادي الحيوي إلى دول العراق والجزيرة العربية واليمن، وكلها مناطق مرتبطة بتاريخ عريق ومصالح مشتركة مع تركيا. كما أن سوريا تمثل عمقًا استراتيجيًا لا يمكن الاستغناء عنه.

كما تشترك الدولتان بحدود جغرافية ممتدة تصل إلى حوالي 900 كيلومتر، والتي مثّلت تحديًا أمنيًا متزايدًا لتركيا، لا سيما بعد ظهور تنظيم حزب العمال الكردستاني "PKK"، واحتضان نظام الأسد الأب له وتقديم الدعم والرعاية والتدريب لعناصره. هذا الدعم أدى إلى توترات كبيرة بين البلدين.

ومع حالة الفوضى العارمة التي اجتاحت سوريا – بالتزامن مع المواجهات المسلحة الضارية بين فصائل الثورة السورية ونظام بشار الأسد – تحوّلت الأراضي السورية إلى بؤرة للخطر الأمني المتفاقم بالنسبة لتركيا، وتهديد حقيقي لوَحدة وسلامة أراضيها، مع تصاعد المخاوف من إنشاء كيان انفصالي عرقي في شمال سوريا، على امتداد الحدود الجنوبية لتركيا. هذا الأمر يمثل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي التركي.

إلا أن انهيار نظام الأسد، منح تركيا – وفقًا لتعبير الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب – فرصة ذهبية لامتلاك زمام المبادرة في سوريا، فكان لزامًا عليها استغلال هذه الفرصة السانحة، وبناء إستراتيجية واعية وفعالة، تعالج من خلالها المشاكل والأزمات التي عانت منها، وخاصة في العقد الأخير المليء بالتحديات.

سوريا الموحدة

فكما تصدت تركيا بكل قوة لمحاولات تقسيم سوريا خلال السنوات الصعبة الماضية، فإن إستراتيجيتها المستقبلية، ستركز بشكل أساسي على سد جميع المنافذ والذرائع التي يمكن أن تؤدي إلى تهديد وحدة الأراضي السورية واستقلالها وسيادتها.

فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان – وخلال اجتماع موسع لرؤساء فروع حزب العدالة والتنمية الحاكم يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري – صرح قائلاً: "من الآن فصاعدًا، لن نسمح أبدًا بتقسيم سوريا مرة أخرى، ولن نقبل بأن تتحول مجددًا إلى ساحة صراع ونزاعات إقليمية ودولية". هذا التصريح يعكس عزم تركيا على حماية وحدة سوريا.

فالوضع السوري الراهن ينطوي على مخاطر جمة وإمكانية التشظي والانفجار؛ وذلك بالنظر إلى التنوعات المذهبية والإثنية الغنية التي يتميز بها المجتمع السوري، والتي قد تحاول بعض القوى الدولية والإقليمية، استغلالها لتقويض تماسك الدولة ووحدتها الوطنية، خاصة وأن التجربة السورية تزخر بنموذجين بارزين في هذا الشأن، الأول يعود إلى الحقبة الاستعمارية، عندما سعت فرنسا منذ احتلال سوريا عام 1920 إلى استغلال الأقليات العرقية والدينية، لإحداث انقسامات جيوستراتيجية عميقة في المنطقة، حيث عمدت إلى تأسيس ما عُرف بـ "دولة جبل العلويين" في المنطقة الساحلية، قبل أن تفشل هذه المحاولة في نهاية المطاف.

لكن مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970 بانقلاب عسكري، اتخذت سوريا طابعًا طائفيًا وأقلوياً، ولم تتردد في ارتكاب مجازر مروعة للحفاظ على هيمنتها وسيطرتها على مقاليد الحكم. هذا الأمر أدى إلى تفاقم الانقسامات الطائفية في المجتمع السوري.

أما النموذج الثاني، فقد قادته الولايات المتحدة الأميركية، بدعمها السافر لحزب العمال الكردستاني وفروعه المنتشرة في سوريا، بهدف إنشاء كيان انفصالي ذي توجهات ماركسية لينينية متطرفة، مستغلةً في ذلك الوجود الكردي كعرقية أصيلة من بين مكونات الشعب السوري المتنوع!

كل هذه المشاريع الأقلوية والانفصالية، ألقت بظلالها الكثيفة وتداعياتها الوخيمة على الداخل التركي، وكلفت أنقرة مواجهات دامية طويلة الأمد على مدار عقود، واضطرابات سياسية واجتماعية، لذا كان من الضروري العمل على منع تكرار مثل هذه السيناريوهات الكارثية.

وهذا ما دفع وزير الخارجية التركي الحالي، هاكان فيدان، إلى التعبير عن رغبته القوية في رؤية سوريا "لا تتعرض فيها الأقليات العرقية والدينية لأي شكل من أشكال التمييز أو سوء المعاملة، بل ويتم تلبية جميع احتياجاتهم الأساسية وحماية حقوقهم المشروعة".

فيما أكد الرئيس التركي أردوغان خلال لقائه المثمر في أنقرة، برئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، اتفاقه التام معها على ضرورة إنشاء إدارة تشاركية شاملة في سوريا، وذلك بهدف الحفاظ على وحدة أراضيها وضمان مستقبل مستقر ومزدهر لجميع السوريين.

فتركيا تدرك تمام الإدراك بأن التعامل الأمثل مع هذا التنوع الثقافي والاجتماعي الغني داخل سوريا، لا يكمن في تجاهله أو إقصائه، بل من خلال الاعتراف الكامل به وبأهميته، ومن ثم إقامة حوار مجتمعي بنّاء يضمن تأسيس نموذج رشيد للحكم يحتوي الجميع من خلال شراكة حقيقية وفاعلة، تحترم الهويات الخاصة بكل طائفة أو عرقية؛ بهدف خلق مجتمع متسامح يسوده السلام والوئام.

مواجهة الإرهاب

وفي لقائه مع رئيسة المفوضية الأوروبية – المشار إليه آنفًا – شدد الرئيس أردوغان على عدم سماح تركيا بوجود أي تنظيمات إرهابية متطرفة، مثل: حزب العمال الكردستاني "PKK"، أو تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على طول حدودها المترامية الأطراف.

فهذه الفرصة التاريخية التي لم تتح لتركيا منذ عقود طويلة، لن تسمح لها بالتفريط فيها، خاصة أنها اختبرت جيدًا الوعود الأميركية والروسية على حد سواء بشأن إبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدودها، ولكن لم تفِ أي منهما بتعهداتها والتزاماتها.

وجهة النظر التركية الأكثر صرامة ووضوحًا، عبّر عنها وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في مقابلة متلفزة، حيث أعلن ما يمكن اعتباره خارطة طريق تفصيلية للتعامل مع تنظيم حزب العمال الكردستاني "PKK"، وفرعه السوري وحدات حماية الشعب "YPG"، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وتضمنت أهم النقاط التالية:

  • إعلان تدمير تنظيم حزب العمال الكردستاني هدفًا إستراتيجيًا رئيسيًا لتركيا في سوريا.
  • مطالبة جميع قادة حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، بمغادرة الأراضي السورية بشكل فوري، حتى ولو كانوا من أبنائها.
  • وجوب مغادرة كل مقاتل أجنبي انضم إلى صفوف التنظيم الإرهابي وقاتل معه على الأراضي السورية فورًا ودون تأخير.
  • بالنسبة للعناصر المتبقية من دون مستوى القيادات، فيجب عليهم إلقاء السلاح نهائيًا، والاندماج في المجتمع، ومواصلة الحياة بشكل طبيعي من خلال التفاهم مع الإدارة السورية الجديدة.

أما على المستوى الميداني، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، فقد نجحت قوات الجيش الوطني السوري، في طرد عناصر تنظيم وحدات حماية الشعب الكردي من مدينتَي منبج وتل رفعت الاستراتيجيتين، ودفعه إلى مناطق شرق نهر الفرات، حيث توفر القوات الأميركية حماية كاملة للتنظيم!

فيما يتبقى إنهاء وجود تمظهرات التنظيم المختلفة في مدينة عين العرب "كوباني"، وبقية محافظة دير الزور الغنية بالنفط شرق الفرات، والرقة، بالإضافة إلى محافظة الحسكة الشمالية.

وتحتاج عملية تحرير هذه المناطق إلى تفاهمات واسعة النطاق بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، تجنبًا لتأزم العلاقات بين البلدين الحليفين، وفي تقديري أنه مع استلام الرئيس ترامب زمام السلطة رسميًا، فإنه يمكن التوصل إلى تلك التفاهمات المنشودة، خاصة مع رحيل بعض الشخصيات البارزة من الإدارة الحالية، والمعروف عنها دعمُها اللامحدود لتنظيم حزب العمال الكردستاني، وعداؤُها الشديد لتركيا، وأبرزهم مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك.

إعادة الإعمار

يعد ملف إعادة الإعمار الشامل من أهم الملفات التي توليها أنقرة عناية فائقة واهتمامًا بالغًا، حيث أكد الرئيس أردوغان مرارًا وتكرارًا أن تركيا "ستقف بكل قوة إلى جانب سوريا الشقيقة، حتى تستطيع الوقوف على قدميها من جديد" وتشير التقديرات الأولية إلى أن فاتورة إعادة الإعمار قد تصل إلى حوالي 300 مليار دولار أميركي.

هذا المبلغ الهائل لا يمكن لسوريا أن تتحمله بمفردها، بل تحتاج إلى دعم إقليمي ودولي واسع النطاق، من أجل رفع العقوبات الدولية المفروضة ضد نظام الأسد، والتي لم يعد لها أي مبرر بعد إسقاطه، بالإضافة إلى مساهمة المجتمع الدولي الفعالة في دعم جهود إعادة الإعمار.

وهنا يأتي الدور المحوري للدبلوماسية التركية النشطة، والتي تلعب دورًا ملحوظًا في هذا الصدد، حيث تعمل جاهدة على دفع الحكومة الانتقالية في دمشق إلى تبنّي سياسات مرنة ومتسامحة، تبعث الطمأنينة في نفوس المجتمع الدولي، فيما تواصل اتصالاتها ومشاركاتها الفعّالة لحمل الدول الغربية على الاعتراف بنظام الحكم الجديد في دمشق، وتقديم الدعم اللازم له.

ومن الأهمية بمكان التأكيد هنا على أن ملف إعادة الإعمار لا يمثل لدى تركيا أهمية اقتصادية فحسب، بل يسبق ذلك الآثار الجيوستراتيجية والأمنية المرتقبة لعودة ملايين النازحين واللاجئين السوريين إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم الأصلية.

إذ ستشكل عودة هؤلاء المهجرين قسرًا نهاية حتمية لمشروع التطهير الديمغرافي والطائفي البغيض الذي شهدته سوريا في السنوات الماضية لصالح مشاريع انفصالية ومذهبية خبيثة كان يراد منها تغيير هوية الدولة السورية وطابعها الحضاري، والعبث بتركيبتها الديمغرافية وتفتيت وحدتها الجغرافية.

وختامًا:

فإن آفاق التعاون المثمر والبناء بين الدولتين الشقيقتين ستتعاظم وتتوسع بشكل ملحوظ خلال المرحلة المقبلة، من أجل إعادة تأهيل الدولة السورية، وخاصة في القطاعات الحيوية التي تم تدميرها بشكل كامل، وفي مقدمتها الجيش العربي السوري، حيث أعلن وزير الدفاع التركي، يشار غولر، استعداد تركيا التام لتقديم الدعم الفني والتدريب العسكري اللازم، إذا طلبت الحكومة الانتقالية السورية ذلك رسميًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة